قصة إسلام قسيس في زمن الاندلس
لأهمية قصة إسلامه رحمه الله ا
ثبتها للفائدة وهي منقولة من التحفة بتحقيق الداعوق. ففي سياق حديثه عن نفسه قال: «فسكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم كبير القدر اسمه: «نقلاومرتيل» وكانت منزلته فيهم بالعلم والدين والزهد رفيعة جداً إنفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية فكانت الأسئلة في دينهم ترد عليه من الآفاق من جهة الملوك وغيرهم صحب الأسئلة من الهدايا الضخمة ما هو الغاية في بابه ويرغبون في التبرك به وفي قبوله لهداياهم ويتشرفون بذلك فقرأت على هذا القسيس علم أصول النصرانية وأحكامه ولم أزل أتقرب إليه بخدمتي له وتقربي إليه إلى أن دفع إلى مفاتيح مسكنه وخزائن مأكله ومشربه وصير جميع ذلك كله على يدي ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه كان يخلو فيه بنفسه والظاهر أنه بيت خزانة أمواله التي كانت تهدي إليه والله اعلم فلازمته على ما ذكرت من القرأة عليه والخدمة له 10 سنين ثم أصابه مرض يوماً من الدهر، فتخلف عن حضور مجلس أقرانه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قول الله عز وجل على لسان نبيه عيسى في الإنجيل: «أنه يأت من بعده نبي اسمه «البارقليط»( ). فبحثوا في تعيين هذا النبي من هو من الأنبياء، وقال كل واحد منهم بحسب علمه وفهمه، فعظم بينهم في ذلك مقالهم وكثر جدالهم ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة في تلك المسألة، فأتيت مسكن الشيخ صاحب الدرس المذكور، فقال لي: ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته باختلاف القوم في اسم «البارقليط» وأن فلاناً قد أجاب بكذا وأجاب وسردت له أجوبتهم فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟ فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل، فقال لي: ما قصرت، وقربت، فلان أخطأ، وكاد أن يقارب، ولكن الحق خلاف هذا كله لأن تفسير هذا الاسم الشريف من العلم القليل، فبادرت إلى قدميه أقبلهما، وقلت له: يا سيدي قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيد ولي في خدمتك عشر سنين، حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها، فلعل من جميل إحسانكم أن تمنوا على بمعرفة هذا الاسم ... فبكى الشيخ وقال لي: يا ولدي .. والله أنت لتعز علي كثيراً من أجل خدمتك لي وانقطاعك إليّ في معرفة هذا الاسم الشريف، فائدة عظيمة، لكني أخاف عليك أن يظهر ذلك عليك فتقتلك عامة النصارى في الحين، فقلت له: يا سيدي والله العظيم وحق الإنجيل ومن جاء به لا أتكلم بشيء مما تسره عليّ إلا عن أمرك. فقال لي: يا ولدي إني سألتك في أول «قدومك عليّ عن بلدك وهل هو قريب من المسلمين؟ وهل يغزونكم أو تغزونهم لأختبر ما عندك من المنافرة للإسلام، فأعلم يا ولدي أن «البارقليط» هو اسم من أسماء نبيهم محمد × نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال عليه السلام وأخبر أنه سيترل هذا الكتاب عليه وأن دينه هو دين الحق وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل قلت له: يا سيدي وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟ فقال لي: يا ولدي لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول لكانوا على دين الله لأن عيسى وجميع الأنبياء دينهم دين الله. ولكن بدلوا وكفروا. فقلت له: يا سيدي «وكيف الخلاص» من هذا الأمر؟ فقال: يا ولدي بالدخول في دين الإسلام. قلت له: وهل ينجو الداخل منه؟ قال لي: نعم ينجو في الدنيا والآخرة، فقلت: يا سيدي إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك منه؟ فقال لي: يا ولدي إن الله تعالى لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به من فضل الإسلام وشرف نبي أهل الإسلام إلا بعد كبر سني ووهن جسمي ولا عذر لنا فيه بل هو حجة الله علينا قائمة ولو هداني وأنا في سنك لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، وحب الدنيا رأس كل خطيئة وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى من رفعة الجاه والعز والترف وكثرة عرض الدنيا ولو أني ظهر علي شيء من الميل إلى دين الإسلام لقتلتني العامة في أسرع وقت وهب أني نجوت منهم، وخلصت إلى المسلمين فأقول لهم: إني جئتكم مسلماً، فيقولون لي: قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت به نفسك من عذاب الله فأبقي بينهم شيخاً كبيراً فقيراً ابن تسعين سنة لا أفقه لسانهم ولا يعرفون حقي فأموت بينهم جوعاً وأنا والحمد لله على دين عيسى وعلى ما جاء به، يعلم الله ذلك مني، فقلت له: يا سيدي أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل في دينهم؟ فقال لي: إن كنت عاقلاً طالباً للنجاة فبادر إلى ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن فاكتمه بغاية جهدك وإن ظهر عليك شيء منه قتلتلك العامة لحينك ولا أقدر على نفعك ولا ينفعك أن تنقل ذلك عني فإني أجحده وقولي مصدق عليك وقولك غير مصدق علي وأنا بريء من ذلك إن فهت بشيء من هذا. فقلت: يا سيدي أعوذ بالله من سريان الوهم لهذا وعاهدته بما يرضه.
ثم أخذت في أسباب الرحلة وودعته فدعا لي عند الوداع بخير وزودني بخمسين ديناراً ذهباً وركبت البحر منصرفاً إلى بلدي مدينة ميورقة فأقمت بها خمسة أشهر وأنا انتظر مركباً يتوجه لأرض المسلمين.فحضر مركب يسافر إلى مدينة تونس فسافرت فيه من صقلية وأقلعنا عنها قرب مغيب الشفق فوردنا مرسى تونس قرب الزوال.
فلما نزلت بديوان تونس وسمع بي الذين بها من أحبار النصارى أمروا بمركب وحملوني معهم إلى ديارهم وصحبت بعض التجار الساكنين أيضاً بتونس فأقمت عندهم في ضيافتهم على أرغد عيش أربعة أشهر وبعد ذلك سألتهم هل بدار السلطان أحد يحفظ لسان النصارى وكان السلطان آنذاك مولانا أبا العباس أحمد ـ رحمه الله ـ فذكر لي النصارى أن بدار السلطان المذكور رجلاً فاضلاً من أكبر خدامه اسمه/ يوسف الطبيب وكان طبيبه ومن خواصه ففرحت بذلك فرحاً شديداً.. وسألت عن مسكن هذا الرجل الطبيب فدللت عليه واجتمعت به وذكرت له شرح حالي وسبب قدومي للدخول في الإسلام فسر الرجل بذلك سروراً عظيماً بأن يكون تمام هذا الخير على يديه ثم ركب فرسه وحملني معه لدار السلطان ودخل عليه فأخبره بحديثي واستأذنه لي فأذن لي.
فمثلت بين يديه فأول ما سألني السلطان عن عمري فقلت له: خمسة وثلاثون عاماً ثم سألني عما قرأت من العلوم فأخبرته فقال لي قدمت قدوم خير فأسلم على بركة الله فقلت للترجمان ـ وهو الطبيب المذكور ـ: قل لمولانا السلطان إنه لا يخرج أحد من دين إلا ويكثر أهله القول فيه والطعن فيه فأرغب في إحسانكم أن تبعثوا إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأحبارهم وتسألوهم عني وتسمعوا ما يقولون في جنابي وحينئذ أسلم إنشاء الله تعالى فقال لي بواسطة الترجمان: أنت طلبت ما طلب عبدالله بن سلام من النبي × حين أسلم.
ثم أرسل إلى أحبار النصارى وبعض تجارهم وأدخلني في بيت قريب من مجلسه فلما دخل النصارى عليه، قال لهم: ما تقولون في القسيس الجديد الذي قدم في هذا المركب؟ قالوا له: يا مولانا هذا عالم كبير في ديننا (وقالت شيوخنا) أنهم ما رأوا أعلى من درجته في العلم والدين (في ديننا) فقال لهم: وما تقولون فيه لو أسلم؟ قالوا: نعوذ بالله من ذلك هو ما يسلم أبداً. فلما سمع عند النصارى بعث إليّ فحضرت بين يديه (وشهدت) شهادتي الحق بمحضر النصارى فصلبوا على وجوههم وقالوا ما حمله على ذلك إلى حب التزويج فإن القسيس عندنا لا يتزوج وخرجوا مكروبين محزونين( ).
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق